فصل: تفسير الآية رقم (48)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ على ما قيل‏:‏ إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي يقابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع و‏{‏مَا‏}‏ اسم موصول عبارة عن الشركاء، ويحسن جمع من يعقل ومن لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام، وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى، والمعنى نسوا ما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم، ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالاً وإن تكون اعتراضاً، وذكر بعض الأجلة أنه يتعين الأخير على القول بأن ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ للشركاء وكون الضلال مجازاً عن عدم النفع فتدبر ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العلم كثيراً ‏{‏مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ أي مهرب، والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي ظن وهي معلقة عنها بحرف النفي، وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ والظن على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم‏:‏ ‏{‏مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ منجاة لهم أو أمر يموهون به، والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجي أو موضع روغان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَسْئَمُ الانسان‏}‏ لا يمل ولا يفتر ‏{‏مِن دُعَاء الخير‏}‏ من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة، ‏{‏ودعاء‏}‏ مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو‏.‏

وقرأ عبد الله ‏{‏مِن دُعَاء بالخير‏}‏ بباء داخلة على الخير ‏{‏وَإِن مَّسَّهُ الشر‏}‏ الضيقة والعسر ‏{‏فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ أي فهو يؤس قنوط من فضل الله تعالى ورحمته، وهذا صفة الكافر، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولاً من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ولما كان أثره الدال عليه لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانياً بطريق أبلغ، وقدم اليأس لأنه صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤل والانكسار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ‏}‏ أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك ‏{‏لَيَقُولَنَّ هذا لِى‏}‏ أي حقي استحقه لما لي من الفضل والعمل لا تفضل من الله عز وجل فاللام للاستحقاق أو هو لي دائماً لا يزوال فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب‏.‏

‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ أي تقوم فيما سيأتي ‏{‏وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى‏}‏ على تقدير قيامها ‏{‏إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى‏}‏ أي للحالة الحسنى من الكرامة، والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزياً بالحسنى لجزمه باستحقاقه للكرامة لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين أن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتيقن وبين التأكيد بالقسم وإن واللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل ‏{‏فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للإهانة لا الكرامة كما توهموا ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ لا يمكنهم التفصي عنه لشذته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ‏}‏ عن الشكر ‏{‏وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين

وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريد نفسه وذاته فكأنه قيل‏:‏ نأى بنفسه ثم كنى بذهب بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد ‏{‏بِجَانِبِهِ‏}‏ عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبر البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في «الكشف»، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازاً في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه أي نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيراً ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير‏:‏

فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى *** وإياك أن تنسى فتذكر زينبا

سيكفيك من ذاك المسمى إشارة *** فدعه مصوناً بالجلال محجباً

ومن هنا قال الطيبي‏:‏ إن ما هنا وارد على التهكم‏.‏ وقرىء ‏{‏ونآ‏}‏ بإمالة الألف وكسر النون للاتباع ‏{‏وناء‏}‏ على القلب كما قالوا راء في رأى ‏{‏بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضاً لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولاً، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها‏.‏

وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول‏:‏ في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله‏:‏ ‏{‏هذا لِى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏ مدمجاً فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني‏:‏ في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله بالنعمة عن المنعم في الحالتين، أما في الأول‏:‏ فظاهر، وأما في الثاني‏:‏ فلأن التضرع جزعاً على الفقد ليس رجوعاً إلى المنعم بل تأسف على العقد المشغل عن المنعم كل الاشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أي القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل‏:‏ كونه يدعو دعاء عريضاً متكرراً ينافي وصفه بأنه يؤس قنوط لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجال يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال‏:‏ الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ على أن الايجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الاطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلاً عن تسميته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ الخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدئها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للإقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميماً للوعيد وتنبيهاً على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ أخبروني ‏{‏إِن كَانَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ مع تعاضد موجبات الايمان به، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي ‏{‏مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ‏}‏ أي خلاف ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ غاية البعد عن الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحاً لحالهم بالصلة وتعليلاً لمزيد ضلالهم، وجملة ‏{‏مَنْ أَضَلَّ‏}‏ على ما قال ابن الشيخ سادة مسد مفعولي ‏{‏رأيتم‏}‏ وفي «البحر» المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأياً ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري‏:‏ تقديره مثلاً فمن أضل منكم، وقيل‏:‏ إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏ءاياتنا فِى الافاق وَفِى‏}‏ الخ مرتبط على ما اختاره «صاحب الكشاف» بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ الخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بماجاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يد نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي الواحد أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموماً من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإراءة كانئة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة ‏{‏وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ في بلاد العرب خصوصاً وهو من عطف ‏{‏جبريل‏}‏ على ‏{‏ملائكته‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ‏}‏ يظهر ‏{‏لَهُمْ أَنَّهُ‏}‏ أي القرآن هو ‏{‏الحق‏}‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدراً، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشيء فتحاً بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهر على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسلياً عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل‏:‏ الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى ‏{‏أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ‏}‏ استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإراءة‏.‏

والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباءة مزيدة للتأكيد و‏{‏رَبَّكَ‏}‏ فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضى للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضاً نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله‏:‏

ألم يأتيك والانباء تنمى *** بما لاقت لبون بني زياد

شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل‏:‏ هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه الخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي انكروا إراءة ذلك الدالة على حقية القرآن ولم يكفهم دليلاً أنه عز وجل مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم‏.‏

وفي «الكشف» أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلاً قاطعاً ولما كان ما وعده غيباً عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل‏:‏ أو لم يكفهم إطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلاً على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة فائدتان‏.‏ إحداهما‏:‏ تحقيق إنجاز ذلك الموعود كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع‏.‏ والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة‏.‏

والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقيقة القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعاً وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى‏.‏ ولا يخفى أن في الآية عليه نوعاً من الألغاز، وقيل‏:‏ أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عز وجل، وهو كما ترى، وقيل‏:‏ المعنى ولم يكفك أنه تعالى عل كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة‏.‏ وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ‏}‏ أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطُ‏}‏ لبيان ما يترت على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جل وعلاخافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة‏.‏

وقيل‏:‏ دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي أنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث‏.‏

هذا وما ذكر في تفسير ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ في معنى ما روى عن الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ والسدي‏.‏ وأبي المنهال‏.‏ وجماعة قالوا‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ‏}‏ الخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فتح مكة، وقال الضحاك‏.‏ وقتادة‏:‏ في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن‏.‏ وأورد عليه أن ‏{‏سَنُرِيهِمْ‏}‏ يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئياً لهم قبل، وقال عطاء‏.‏ وابن زيد‏:‏ أن معنى ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق‏}‏ أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفاً‏.‏ وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليهازماناً قريباً حالاً فحالاً فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكراً ازداد وقوفاً فصح معنى الاستقبال‏.‏

واختار ذلك «صاحب الكشف» تبعاً لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير ‏{‏أَنَّهُ الحق‏}‏ لله عز وجل فقال‏:‏ إن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ إشعاراً بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وأنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عز وجل ولذا جعل نحول ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ في جواب قولهم

‏{‏مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏ أنه إعراض عن كونه منزلاً وجواب بأنه أساطير لا منزل فاريدان يبين إثبات كونه حقاً من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الانصاف فقيل‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ‏}‏ أي سيرى الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ أي أن الله جل جلاله هو الحق من كل وجه ذاتاً وصفة وقولاً وفعلاً وما سواه باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل‏:‏ أولم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي اليقيني، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏برك‏}‏ مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وإيثاره على أو لم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلاً وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ‏}‏ فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيماناً متمحضاً عن التقليد‏.‏

وإطلاق المرية للتغليب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطُ‏}‏ تتميماً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ‏}‏ لأن من أحاط بكل شيء علماً وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن‏.‏ ومجاهد وأجرى على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف، ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ‏}‏ الخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير ‏{‏أَنَّهُ الحق‏}‏ إلى المرئي وتفيسر ‏{‏الحق‏}‏ بالله عز وجل، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الجوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود، وقرىء ‏{‏أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ بكسر همزة أن على إضمار القول، وقرأ السلمي‏.‏

والحسن ‏{‏فِى مِرْيَةٍ‏}‏ بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها ‏{‏خفية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏ بضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء‏.‏

ومن كلمات القوم في الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 8‏]‏ فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل الشوق والمحبة وصدق الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الإسرار كالإعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض‏}‏ أي أرض البشرية ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ يومي الهوى والطبيعة ‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ من الهوى والطبيعة ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ العقول الإنسانية ‏{‏وبارك فِيهَا‏}‏ بالحواس الخمس ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ أقواتها من القوى البشرية ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ سماء القلب ‏{‏وَهِىَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ هيولى إلهية ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ هي الأطوار السبعة للقلب فالأول‏:‏ محل الوسوسة والثاني‏:‏ مظهر الهواجس والثالث‏:‏ معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع‏:‏ منبع الحكمة ويسمى القلب والخامس‏:‏ مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس‏:‏ مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع‏:‏ مورد التجلي ومركز الإسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ يومي الروح الإنساني والإلهام ‏{‏وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ وهي أنوار الإذكار والطاعات ‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ يوم خوطبوا بألست بربكم‏؟‏ ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذكر أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقاً إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء ‏{‏تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة‏}‏ تنزلاً متفاوتاً حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه ‏{‏وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ هي أيضاً متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله‏}‏ بترك ما سواه ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ لئلا يخالف حاله قاله ‏{‏وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين‏}‏

‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد‏:‏

خلت الرقاع من الرخاخ *** وتفرزنت فيها البيادق

وتصاهلت عرج الحمير *** وذاك من عدم السوابق

‏{‏وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة‏}‏ وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة ‏{‏وَلاَ السيئة‏}‏ وهي طلب السوى والرضا بالدون ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ وهي طلب الله تعالى طلب ما سواه سبحانه ‏{‏فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ‏}‏ وهو النفس الأمارة بالسوء ‏{‏كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ لتميل إلى ما يهوى ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 36‏]‏ وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية ‏{‏قُلْ هُوَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏ على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عز وجل وهي كشف الحجب ليظهر أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبداً وأنه عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏

ما آدم في الكون ما ابليس *** ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل إشارة وأنت المعنى *** يا من هو للقلوب مغناطيس

وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل، تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاماً باقيين إلى يوم لقائه‏.‏

‏[‏سورة الشورى‏]‏

تفسير الآيات ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏حم عسق‏}‏ لعلهما اسمان للسورة وأيد بعدهما آيتين والفصل بينهما في الخط وبورود تسميتها ‏{‏عسق‏}‏ من غير ذكر ‏{‏حم‏}‏، وقيل‏:‏ هما اسم واحد وآية واحدة وحقه أن يرسم متصلاً كما في ‏{‏كهيعص‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1‏]‏ لكنه فصل ليكون مفتتح السورة على طرز مفتتح أخواتها حيث رسم في كل مستقلاً وعلى الأول‏:‏ هما خبران لمبتدأ محذوف، وقيل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ مبتدأ و‏{‏عسق‏}‏ خبره وعلى الثاني‏:‏ الكل خبر واحد، وقيل‏:‏ إن ‏{‏حم عسق‏}‏ إشارة إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من أنهار المشرق يشق النهر بينهما يجتمع فيهما كل جبار عنيد يبعث الله تعالى على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ويخسف بالأخرى في الليلة الأخرى، وروي ذلك عن حذيفة، وقيل‏:‏ إن ‏{‏حم‏}‏ اسم من أسماء الله تعالى و‏{‏عِينٌ‏}‏ إشارة إلى عذاب يوم بدر و‏{‏سين‏}‏ إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏ و‏{‏قاف‏}‏ إلى قارعة من السماء تصيب الناس، وروي ذلك بسند ضعيف عن أبي ذر، والذي يغلب على الظن عدم ثبوت شيء من الروايتين‏.‏

وفي «البحر» ذكر المفسرون في ‏{‏العالمين حم عسق‏}‏ أقوالاً مضطربة لا يصح منها شيء ضربنا عن ذكرها صفحاً، وما ذكرناه أولاً قد اختاره غير واحد، ومنهم من اختار أنها مقطعات جىء بها للإيقاظ، وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن مسعود ‏(‏حم سق‏)‏‏}‏ بلا عين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم‏}‏ كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها، والكاف مفعول ‏{‏يُوحَى‏}‏ على الأول‏:‏ أي يوحى مثل ما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني‏:‏ أي يوحى إيحاء مثل إيحائها إليك وإلى الرسل أي بواسطة الملك، وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفاً واعتبر الجار والمجرور مفعولاً أو متعلقاً بمحذوف وقع نعتاً، وقول العلامة الثاني في التلويح‏:‏ إن جار الله لا يجوز الابتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل‏:‏ إنه لم يظهر له وجه‏.‏

وجوز أبو البقاء كون ‏{‏كذلك‏}‏ مبتدأ ‏{‏ويوحى‏}‏ الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك الخ وحذف مثله شائع في الفصيح، نعم هذا الوجه خلاف الظاهر، والإشارة كما أشرنا إليه إلى ما في السورة أو إلى إيحائها، والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل، وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وأن إيحاء مثله عادته عز وجل، وقيل‏:‏ إنها على التغليب فإن الوحي إلى من مضى مضى وإليه عليه الصلاة والسلام بعضه ماض وبعضه مستقبل، وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به ‏{‏تَرَ إِلَى الذين‏}‏ أي وأوحى إلى الذين وهو كما ترى، وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبهاً به من تفخيمها ما لا يخفى‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ وابن كثير‏.‏ وعياش‏.‏ ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو ‏{‏يُوحَى‏}‏ مبنياً للمفعول على أن ‏{‏كذلك‏}‏ مبتدأ ‏{‏ويوحى‏}‏ خبره المسند إلى ضميره أو مصدر و‏{‏لِمَا يُوحَى‏}‏ مسند إلى ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ و‏{‏الله‏}‏ مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحى الواقع في جواب من يوحى‏؟‏ نحو ما قرروه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36، 37‏]‏ على قراءة ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏ بالبناء للمفعول، وقوله‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح

وقال الزمخشري‏:‏ رافعه ما دل عليه ‏{‏يُوحَى‏}‏ كأن قائلاً قال‏:‏ من الموحي‏؟‏ فقيل‏:‏ الله وإنما قدر كذلك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الإيحاء مسلم معلوم وإنما الغرض من الإخبار إثبات اتصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح، ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ‏}‏ بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنالك على ظاهره لم يؤت به للدلالة على الاستمرار ولهم فيه مقال‏.‏ و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان له تعالى عند الشيخين، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل‏:‏ ‏{‏الله العزيز الحكيم‏}‏ إلى آخر السورة قائم مقام فاعل ‏{‏يُوحِى‏}‏ أي هذه الكلمات‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ والأعشى عن أبي بكر‏.‏ وأبان ‏{‏نُوحِى‏}‏ بنون العظمة فالله مبتدأ وما بعده خبر أو ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض وَهُوَ العلى العظيم‏}‏ خبر له، وعلى الأوجه السابقة استئناف مقرر لعزته تعالى وحكمته عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏تَكَادُ السموات‏}‏ وقرىء ‏{‏يَكَادُ‏}‏ بالياء ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ يتشققن من عظمة الله تعالى وجلاله جل شأنه وروي ذلك عن قتادة‏.‏ وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ تكاد السماوات يتفطرن من الثقل، وقيل‏:‏ من دعاء الشريك والولد له سبحانه كما في سورة مريم، وأيد هذا بقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏ فإيراد الغفور الرحيم بعد لأنهم استوجبوا بهذه المقالة صب العذاب عليهم لكنه صرف عنهم لسبق رحمته عز وجل، والآية عليه واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية والعظمة، والأول أولى في هذا المقام لأن الكلام مسوق لبيان عظمته تعالى وعلوه جل جلاله ويؤيده ترك العاطف، ويليه ما روي عن الحبر فإن الآية وإن تضمنت عليه الغرض المسوق له الكلام لكن دلالتها عليه بناءً على القول الأول أظهر‏.‏

وقرأ البصريان‏.‏ وأبو بكر ‏{‏ينفطرن‏}‏ بالنون، والأول أبلغ لأن المطاوع والمطاوع من التفعيل والتفعل الموضوع للمبالغة بخلاف الثاني فإنه انفعال مطاوع للثلاثي، وروى يونس عن أبي عمرو أنه قرأ ‏{‏تتفطرن‏}‏ بتاءين ونون في آخره على ما في «الكشاف»، و‏{‏تنفطرن‏}‏ بتاء واحدة ونون على ما في «البحر» عن ابن خالويه وهو على الروايتين شاذ عن القياس والاستعمال لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث فلا تقول النساء تقمن ولا الوالدات ترضعن، والوجه فيه تأكيد التأنيث كتأكيد الخطاب في أرأيتك؛ ومثله ما رواه أبو عمر الزاهد في نوادر ابن الأعرابي الإبل تتشممن‏.‏

‏{‏يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ‏}‏ أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول في سبب التفطر لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال كالعرش والكرسي والملائكة من تلك الجهة ولذا كانت قبلة الدعاء، وعلى الثالث للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حين أثرت من جهة الفوق فلأن تؤثر من جهة التحت أولى، وكذا على الثاني لأن العادة تفطر سطح البيت مثلاً من جهة التحتانية بحصول ثقل عليه، وقيل‏:‏ الضمير للأرض أي لجنسها فيشمل السبع ولذا جمع الضمير وهو خلاف الظاهر، وقال علي بن سليمان الأخفش‏:‏ الضمير للكفار والمراد من فوق الفرق والجماعات الملحدة، وبهذا الاعتبار أنث الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن التفطر من أجل أقوال هاتيك الجماعات، وفيه ما فيه‏.‏

‏{‏والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ ينزهونه سبحانه عما لا يليق به جل جلاله ملتبسين بحمده عز وجل، وقيل‏:‏ يصلون والظاهر العموم في الملائكة، وقال مقاتل‏:‏ المراد بهم حملة العرش ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض‏}‏ بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأمور المقربة إلى الطاعة كالمعاونة في بعض أمور المعاش ودفع العوائق واستدعاء تأخير العقوبة طمعاً في إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وهو فيما ذكر مجاز مرسل أو استعارة‏.‏

وقال السدي‏.‏ وقتادة‏:‏ المراد بمن في الأرض المؤمنون لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ والمراد بالاستغفار عليه حقيقته، وقيل‏:‏ الشفاعة‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى وأنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليهم السلام وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة، والآية على كون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السموات *يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ لبيان عظمته جل شأنه مقررة لما دل عليه ذلك ومؤكدة له لأن تسبيح الملائكة وتنزيههم له تعالى لمزيد عظمته تبارك وتعالى وعظيم جلاله جل وعلا والاستغفار لغيرهم للخوف عليهم من سطوة جبروته عز وجل والتذييل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الله‏}‏ الخ على هذا ظاهر، وعلى كون تفطر السموات لنسبة الولد والشريك بيان لكمال قدسه تعالى عما نسب إليه عز وجل فيكون تسبيحهم عما يقوله الكفرة واستغفارهم للمؤمنين الذين تبرأوا عما صدر من هؤلاء والتذييل للإشارة إلى سبب ترك معاجلة العذاب مع استحقاقهم له وعمم بعض المستغفر لهم وأدخل استغفار الملائكة في سبب ترك المعاجلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ شركاء وأنداداً ‏{‏الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ أي بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار فوكيل فعيل بمعنى مفعول من المزيد أو الثلاثي، وما في هذه الآية من الموادعة على ما في «البحر» منسوخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ ذلك إشارة إلى مصدر ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ ومحل الكاف على ما ذهب إليه الأخفش من ورودها اسما النصب على المصدرية ‏{‏وَقُرْءانًا‏}‏ مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهوم أوحينا إليك قرآناً عربياً لا لبس فيه عليك ولا على قومك، وقيل‏:‏ إشارة إلى ما تقدم من ‏{‏الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏ فالكاف مفعول لأوحينا ‏{‏وَقُرْءانًا عَرَبِيّاً‏}‏ حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي، وجوز نصبه على المدح أو البدلية من كذلك، وقيل‏:‏ أولى من هذا أن يكون إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وأنه عليه الصلاة والسلام نذير فحسب لأنه أتم فائدة وأشمل عائدة ولا بد عليه من التجوز في قرآناً عربياً إذ لا يصح أن يقال أوحينا ذلك المعنى وهو قرآن عربي لأن القرآنية والعربية صفة اللفظ لا المعنى لكن أمره سهل لقربه من الحقيقة لما بين اللفظ والمعنى من الملابسة القوية حتى يوصف أحدهما بما يوصف به الآخر مع ما في المجاز من البلاغة ‏{‏لّتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ أي أهل أم القرى على التجوز في النسبة أو بتقدير المضاف والمراد بأم القرى مكة، وسميت بذلك على ما قال الراغب لما روي أنه دحيت الدنيا من تحتها فهي كالأصل لها والام تقال لكل ما كان أصلاً لشيء، وقد يقال‏:‏ هي أم لما حولها من القرى لأنها حدثت قبلها لا كل قرى الدنيا، وقد يقال لبلد‏:‏ هي أم البلاد باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ من العرب على ما ذهب إليه كثير وخص المذكورون بالذكر لأن السورة مكية وهم أقرب إليه عليه الصلاة والسلام وأول من أنذر أو لدفع ما يتوهم من أن أهل مكة ومن حولها لهم طمع في شفاعته صلى الله عليه وسلم وإن لم يؤمنوا لحق القرابة والمساكنة والجوار فخصهم بالإنذار لإزالة ذلك الطمع الفارغ، وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ حَوْلَهَا‏}‏ جميع أهل الأرض واختاره البغوي وكذا القشيري وقال‏:‏ لأن الكعبة سرة الأرض والدنيا محدقة بما هي فيه أعني مكة‏.‏ وهذا عندي لا يكاد يصح مع قولهم‏:‏ إن عرضها كأم وذولها عز وإن المعمور في جانب الشمال أكثر منه في جانب الجنوب ‏{‏وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع‏}‏ أي يوم القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 9‏]‏ وقيل‏:‏ تجمع فيه الأرواح والأشباح، وقيل‏:‏ الأعمال والعمال، والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف ههنا ثاني مفعولي الأول وهو ‏{‏يَوْمَ الجمع‏}‏ والمراد به عذابه وأول مفعولي الثاني وهو ‏{‏أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ فقد حذف من الأول ما أثبت في الثاني ومن الثاني ما أثبت في الأول وذلك من الاحتباك‏.‏

وقال جار الله‏:‏ الأول عام في الإنذار بأمور الدنيا والآخرة ثم خص بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع‏}‏ يوم القيامة زيادة في الإنذار وبياناً لعظمة أهواله لأن الإفراد بالذكر يدل عليه وكذلك إيقاع الإنذار عليه ثانياً والظاهر عليه أن حذف المفعول الثاني من الأول لإفادة العموم وإن كان حذف الأول من الثاني لذلك أيضاً وتنذر كل أحد يوم الجمعة، وقيل‏:‏ يوم الجمعة ظرف فيكون المفعولان محذوفين وقرىء ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ بياء الغيبة على أن الفاعل ضمير القرآن لعدم حسن الالتفات ههنا ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض في آخر الكلام مقرر لما قبله ويحتمل الحالية من ‏{‏يَوْمَ الجمع‏}‏ أو الاستئناف ‏{‏فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير‏}‏ أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولاً ثم يفرقون بعد الحساب، ‏{‏وَفَرِيقٌ‏}‏ مبتدأ ‏{‏وَفِى الجنة‏}‏ صفته والخبر محذوف وكذا ‏{‏فَرِيقٌ فِى السعير‏}‏ أي منهم فريق كائن في الجنة ومنهم فريق كائن في النار، وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وجملة المبتدأ والخبر استئناف في جواب سؤال تقديره ثم كيف يكون حالهم‏؟‏ أو حال ولا ركاكة فيه؛ واشتراط الواو فيه غير مسلم، وجوز كون ‏{‏فَرِيقٌ‏}‏ فاعلاً للظرف المقدر، وفيه ضعف، وكونه مبتدأ والظرف المقدر في موضع الصفة له وفي الجنة خبره أي ‏{‏فَرِيقٌ‏}‏ كائن منهم مستقر في الجنة، وكونه مبتدأ خبره ما بعده من غير أن يكون هناك ظرف مقدر واقع صفة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها في سياق التفصيل والتقسيم كما في قوله‏:‏

فثوب لبست وثوب أجر *** وكونه خبر مبتدأ محذوف أي المجموعون فريق الخ‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏فَرِيقاً وَفَرِيقًا‏}‏ بنصبهما فقيل‏:‏ هو على الحال من مقدر أي افترقوا أي المجموعون فريقاً وفريقاً أو من ضمير جمعهم المقدر لأن أل قامت مقامه أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين وهو من مجاز المشارفة أي مشارفين للتفرق أو الحال مقدرة فلا يلزم كون افتراقهم في حال اجتماعهم أو يقال إن اجتماعهم في زمان واحد لا ينافي افتراق أمكنتهم كما تقول‏:‏ صلوالأفي وقت واحد في مساجد متفرقة فالمراد متفرقين في داري الثواب والعقاب، وإذا أريد بالجمع جمع الأرواح بالأشباح أو الأعمال بالعمال لا يحتاج إلى توفيق أصلاً، وجوز كون النصب بتنذر المقدر أو المذكور والمعنى تنذر فريقاً من أهل الجنة وفريقاً من أهل السعير لأن الإنذار ليس في الجنة والسعير ولا يخفى تكلفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ جعلهم أمة واحدة ‏{‏لَجَعَلَهُمْ‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله‏:‏ على دين واحد، فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل ‏{‏والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل كما في الإدخال في الرحمة، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير، والكلام متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏ كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولاً أولياً، وعدل عن الظاهر إلى ما في «النظم الجليل» إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفى ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه‏.‏

وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذٍ داخلون فيها فكان المناسب حينئذٍ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه، وربما يقال‏:‏ حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمناً كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفاراً لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسباً كما لا يخفى على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون «يدخل من يشاء» لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية، وقال شيخ الإسلام‏:‏ الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ الآية على أحد الوجهين، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولاً لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى‏.‏

ولا يخفى أن بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ الآية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولي أو نصير وكلام الكشاف يومىء إلى أنه متصل بقوله تعالى ‏{‏والذين اتخذوا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏ الخ على معنى دع الاهتمام بشأنهم واقطع الطمع في إيمانهم وكيت وكيت أليسوا الذين اتخذوا من دون الله تعالى أولياء وهو سبحانه الولي الحقيقي القادر على كل شيء وعدلوا عنه عز وجل إلا ما لا نسبة بينه تعالى وبينه أصلاً وإن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ الآية اعتراض مؤكد لمضمون الآيتين، و‏{‏أَمْ‏}‏ على القولين منقطعة وهي تقدر في الأغلب ببل والهمزة، وقدرها جماعة هنا بهما إلا أن بل على القول الثاني للإضراب وعلى القول الأول للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، والهمزة قيل‏:‏ لإنكار الواقع واستقباحه، وقيل‏:‏ لا بل لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها ‏{‏فالله هُوَ الولى‏}‏ قيل‏:‏ هو جواب شرط مقدر أي إن أرادوا ولياً بحق فالله تعالى هو الولي بحق لا ولي بحق سواه عز وجل، وكونه جواب الشرط على معنى الإخبار ونحوه‏.‏

وقال في «البحر»‏:‏ لا حاجة إلى اعتبار شرط محذوف والكلام يتم بدونه، ولعله يريد ما قيل‏:‏ إنه عطف على ما قبله أو أنه تعليل للإنكار المأخوذ من الاستفهام كقولك أتضرب زيداً فهو أخوك أي لا ينبغي لك ضربه فإنه أخوك‏.‏

وتعقب بأن المعروف في مثله استعماله بالواو وإنما يحسن التعليل في صريح الإنكار، ولا يناسب معنى المضي أيضاً ‏{‏وَهُوَ يُحْىِ الموتى‏}‏ أي شأنه ذلك نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ فهو سبحانه الحقيق بأن يتخذ ولياً فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء ما أصلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْء‏}‏ إلى آخره حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده ولياً فاختلفتم أنتم وهم ‏{‏فَحُكْمُهُ‏}‏ راجع ‏{‏إِلَى الله‏}‏ وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين، ويجوز أن يكون كلاماً من جهته تعالى متضمناً التسلية ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ الخ بتقدير قل، والإمام اعتبره من أول الكلام، وأياً ما كان فالإشارة إليه تعالى من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قاله الطيبي من كونه تعالى هو يحيي الموتى وكونه سبحانه على كل شيء قدير وكونه عز وجل ما اختلفوا فيه فحكمه إليه، وقال في «الإرشاد»‏:‏ أي ذلكم الحاكم العظيم الشأن ‏{‏الله رَبّى‏}‏ مالكي ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في مجامع أموري خاصة لا على غيره ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمراً واحداً مستمراً والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع، وقيل‏:‏ وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ وما اختلفتم فيه من شيء من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله تعالى والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله تعالى أعلم كمعرفة الروح‏.‏ وأورد على الكل أنه مخالف للسياق لأن الكلام مسوق للمشركين وهو على ذلك مخصوص بالمؤمنين، وظاهر كلام الإمام اختيار الاختصاص فإنه قال في وجه النظم الكريم‏:‏ إنه تعالى كما منع رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات، وذكر أنه احتج نفاة القياس به فقالوا‏:‏ إما أن يكون المراد منه وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله تعالى أو من القياس على ما نص سبحانه عليه والثاني باطل لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس فتعين الأول، ولقائل أن يقول‏:‏ لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس، وأجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله تعالى قطع الاختلاف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اختلفتم‏}‏ والرجوع إلى القياس مما يقوي الاختلاف فوجب الرجوع إلى النصوص اه‏.‏

وأنت تعلم أن النصوص غير كافية في جميع الأحكام وأن الآية على ما سمعت أولاً مما لا يكاد يصح الاستدلال بها على هذا المطلب من أول الأمر‏.‏ وفي «الكشاف» لا يجوز حمل الاختلاف فيها على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يخفى عليك أن هذه المسألة مختلف فيها فقال الأكثرون بجواز الاجتهاد المذكور عقلاً ومنهم من أحاله، ثم المجوزون منهم من منع وقوع التعبد به وهو مذهب أبي علي‏.‏ وابنه أبي هاشم، وإليه ذهب صاحب الكشاف وذكر ما يخالفه نقل لمذهب الغير وإن لم يعقبه برد كما هو عادته في الأكثر ومنهم من ادعى الوقوع ظناً ومنهم من جزم بالوقوع، وقيل‏:‏ إنه الأصح عند الأصوليين ومنهم من توقف، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، والذي نقوله هنا‏:‏ إن الاستدلال بالآية على منعه لا يكاد يتم وأقل ما يقال فيه‏:‏ إنه استدلال بما فيه احتمال، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات والارض‏}‏ خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه أو مبتدأ خبره ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ‏}‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ أو ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏ وما بينهما جملة معترضة بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى ‏{‏فَاطِرَ‏}‏ وجعل أي خلق ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ من جنسكم ‏{‏أزواجا‏}‏ نساء‏.‏

وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة ‏{‏وَمِنَ الانعام أزواجا‏}‏ أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً كما خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ففيه جملة مقدرة لدلالة القرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً أو ذكوراً وإناثاً ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذرء والذر إخوان ‏{‏فِيهِ‏}‏ أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وأثنائه فهو كالمنبع له، ويجوز أن تكون في للسببية وغلب في ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد استمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنعام غائب غير عاقل فإذا ادخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغليب العقل والخطاب معا، وهذا التغليب أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا هو الذي عناه جار الله وهو مما لا بأس فيه لأن العلة ليست حقيقية، وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما‏.‏ مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطباً أو غائباً‏.‏ والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه، وكلام صاحب المفتاح يحتمل اعتبار تغليبين‏.‏ أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب‏.‏ وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل، وقال الطيبي‏:‏ إن المقام يأبى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن كم في ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ هو كما ‏{‏فِى جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ بعينه لكن غلب ههنا على الغيب فليس في يذرؤكم إلا تغليب واحد انتهى، ثم أنه لا ينبغي أن يقال‏:‏ إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين‏:‏ احداهما جعل الناس أزواجاً‏.‏ والثانية جعل الأنعام أزواجاً ويجوز أن يكون هو الذي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضاً فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم، وعن ابن عباس أن معنى ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه، والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام‏.‏

وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال‏:‏ ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالى الطبقات على مر الزمان، وقال العتبي‏:‏ ضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الأناث، وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السموات والأرض، وهو كما ترى ومثله ما قبله والله تعالى أعلم ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء‏}‏ نفى للمشابهة من كل وجه ويدخل في ذلك نفى أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عز وجل وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤون التي من جملتها التدبير البديع السابق فترتبط بما قبلها أيضاً، والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر‏:‏

ليس كمثل الفتى زهير *** خلق يوازيه في الفضائل

وقول الآخر‏:‏

وقتلى كمثل جذوع النخيل *** تغشاهم مسبل منهمر

وقول الآخر‏:‏

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم *** ما أن كمثلهم في الناس من أحد

وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها‏.‏ وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين‏.‏ أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذا قلت أنت لا تبخل‏.‏ والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم، ومن ذلك قولهم قد أيفعت لذاته أي أترابه وأمثاله في السن، وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم في سقيا عبد المطلب‏:‏ إلا وفيهم الطيب الطاهر لذاته تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك، وقيل‏:‏ إن مثلا بمعنى الصفة وشيئاً عبارة عنها أيضاً حكاه الراغب ثم قال‏:‏ والمعنى ليس كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليست تلك الصفات له عز وجل حسب ما يستعمل في البشر‏.‏

وذهب الطبري‏.‏ وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله‏:‏

بالأمس كانوا في رخاء مأمول *** فأصبحت مثل كعصف مأكول

وقول الآخر‏:‏

أهل عرفت الدار بالغريين *** وصاليات ككما يؤثفين

وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة، ونسب إلى الزجاج‏.‏ وابن جنى‏.‏ والأكثرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد، ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظير شطري البيتين، ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه، وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه إن سلباً فسلب وإن إثباتاً فإثبات فيندفع ما أورد، نعم الأول هو الوجه، والمثل قال الراغب‏:‏ أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشارك في الكمية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر، وذكر الإمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أي لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء، وقال‏:‏ لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك، وأطال الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء‏.‏

وفي شرح جوهرة التوحيد اعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي‏.‏ وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلاً عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو‏.‏

ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران أحدهما‏:‏ الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع‏.‏ وثانيهما‏:‏ أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وان اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه‏.‏

واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا‏:‏ زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث

«الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل» وأريد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها، ويمكن أن يجاب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل حتى أن زيداً وعمراً لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا فلا يخالف مذهب الماتريدية، وفيه أيضاً أنه عز وجل ليس له سبحانه مماثل في ذاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة، والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية، ومن هنا تعلم ما في قول الإمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى ذلك أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة، ومن المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز وجل وقدرته جل وعلا أي ليسا سادين مسدهما، وأما كونه تعالى مذكوراً ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثلاً لمثل نفسه فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء‏}‏ معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادته ولا بزيادة الكاف ومع هذا واغماض العين عما في كلامه لا يتم له مقصوده إذ لنا أن نجعل ليس مثل مثله شيء نفياً للمثل على سبيل الكناية أيضاً لكن بوجه آخر وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه لأنه نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال‏:‏ ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل الله تعالى مثل، والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير أنه موجود، ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل المثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى أن حكم الأمثال واحد وأنه يجري في النفي دون الإثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه أن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وانه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء، أما أولاً فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية إشعار بها فضلاً عن الإيراد، وأما ثانياً فلأنه حينئذ تكون الحجة قياساً استثنائياً استثنى فيه نقيض التالي هكذا لو كان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلا بد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة إذ ليس بينا بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلاً على الآخر، لكن قيل‏:‏ إن المفهوم من ليس مثل مثله شيء على ذلك التقدير نفى أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الإضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم‏:‏ إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم، وأيضاً لا نسلم أنه لو وجود له سبحانه مثل لكان هو جل وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال‏.‏

وأجيب عن الأول أن اسم ليس ‏{‏شَىْء‏}‏ وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلاً لمثله، ولا شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف الماثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقاً يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلاً لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عز وجل ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ المدرك إدراكاً تاماً لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء ‏{‏البصير‏}‏ المدرك إدراكاً تاماً لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام‏.‏